( لم تكن عتبة باب )|(1)

(1)

2005 ميلادي في الليلة الخامسة من شهر يونيو .

العاشرة مساء.

تبدو كأي الليالي الاعتيادية، رتابة وهدوء يخيم على سماء الرياض.

هناك في أحياء الرياض القديمة،

يسكنُ البيت المجاور، لدكان أبو حمود المركون بالزاوية.

صرير بابهِ المهتري يفزعه مرة أخرى؛ ليعيد عدّ نقوده

قضى أسبوع في جمع المال والافتراء في أنه في أشد الحاجة لهَ ليقضي ديِنه.

عدّ المبلغ للمرة الثانية، يرجف تلك سبعة آلاف تامه، أدخله في جيبه.

همَّ بالخروج فلا يزال أمامه ساعتين للوصول في الموعد المتفق عليه.

نفض ثوبه يبدو رَثَّا أسوأ من حاله، انتعل حذاءه الخشنِ المتهالك.

اتجه مُسرعاً نحو الباب، لَوَلا أن استوقفه نداء زوجته.

” لو تأخذ سارة معك”

:حسنًا ولكن … ( كان يبحث عن عذر لَمَ يستهلكه في المرات السّابقة، يعلم جيدًا أنها تتغابى وتتجاوز كثيرًا وكأنها في كل مره تناديه ليأخذ ابنته الكبرى؛ تحاول إيقاظ قلبه، ثمة ماهو أكبر ! )

سكتَ، لمَ يرد عليها بنبرة لؤمه المعتادة؛ ظنَ حينما أبصر في وجه ابنته أنها ستكون المخرج في حال واجه مشكلة.

امسك بيد صغيرته وخرج بعجل، يسمعُ زوجته: ( ولكن أرجوك، لا تتأخر!!).

اتجه نحو سيارته المركونه بإهمال، فتح الباب الأمامي لتقفز سَارَة هيّا!

( سارة ذات الأعوام الأربعة، العهد الأول لمحاولات الأبوة، تحمل في ملامحها سماحة أيِّ طفل يواجه كل شيء بابتسامة، شعرها المجعد يشعرك بأنها شقية، لكن ليست سوى فتاة ثرثارة، تتأتئ كثيرًا و لاتكل من أن تسرد لك كل شيء)

مرت نصف ساعة، يحاول أن يتخذ كل الطرق الفرعية …

شارد الذهن، يحاول أن يشد بقبضة يداه في مِقوَد السيارة؛ لكنها لا تثبت من فرط قلقه …

وماكان لطفلته سارة الثرثارة إلا أن تغفو، ليست كعادتها، بدت له أكثر هدوءًا …

… يبدو خوفهَ غريباً، الخوف الذي لا يجعلهُ يتوقف عما يفعله، ولا ينقضي بأمنِ فعلته؛ وكأنما النشوة التي يحصل عليها في النهاية تدفعه لأن يعيد أكثر من مره.

هو ليس بمقدوره أن يحدد سوء ما سيحدث، لكنه دائمًا متأهباً

نظرات زوجته له في كل مرة تشعره أنه قد توغل في وحلِ سيِّئ، لكن يرى أنهُ مجبر بأن يكمل عوضاً على أن يسلك طريقاً آخر…

يعلمَ في كل محاولاته أنه على وشك الإنتهاء، لكنهُ لا يأبه وكأنما هو بصدد خوض مغامرة …

تمر ساعة أخرى، تتبدد إضاءة المدينة الآن، ورقبة سارة تنحني منذرة بنوم عميق…

يبتعد كثيرًا عَن نقاط التفتيش، يسلك طريق رملي فرعي

قطع ميل واحد، الآن يسلك الطريق الأيمن كما هو مُتفق…

تلك المرة الأولى التي يبتعد فيها بهذا القدر، لا يعلم لماذا يود أن يبتعد صالح (البائع) كل هذه المسافة، وكأنما هو بصدد الهروب!

تلك سيارة رمادية، يظهر منها نورٌ خافت، تمامًا كما أتفق مع الرجل…

كان صالح واقفًا خلفها، ينفثُ رمادًا يُشيب بهِ سواد السماء، تكاد تميز وجه بصعوبة …

يوقف سيارته مُقابله، يتحسس النقود بجيبه، يسترق النظر لوميض هاتفه (مكالمات فائته)…

مرت قرابة الساعتين، لكن لا تستطيع الوصول إليه

لا تبرح، تروح وتجيء.

لقد أوصت سارة أنه حينما ترى والدها يبعتد كثيرًا تبكي حتى يعود بها…

لا، لا ترجف الأرض؛ بل هيِّ من لا تشعر بأطرافها…

: يالله احفظها، يالله أوقظ سبات قلبه

تسعى،

وساقيها يرتجفان

ولاتزال تبتهل

لا الأرض تبرح ولا هي تكف سعيًا …

يسترق النظر لوميض هاتفه؛ لابد أنها هيّ.

ينظر فزعاً للجهة الأخرى وكأنما يتذكرها لتو، كان غارقاً بقلقة.

مال جانبها الأيمن كثيرًا، لمْ يهتم لموجة الهواء الباردة التي شعر بها وهو يفتح الباب، ولا للرجفة الخفيفة التي أجتاحت جسدها النحيل.

أغلق الباب وهو ينظر لصالح، يبدو رمادياً وسط تلك العتمة.

ابتسم له باصفرار، وقال وهو يتأتأ جاهزه الكمية؟

صالح وهو ينفث كومة الرماد متجاهلاً سؤاله: لم يلحظك أحد؟

راشد: لا أبدًا

يخرج نقوده، تفضل.

صالح: هذه المره وضعنا ليس بجيد لذلك أضفت لك ما يكفيك هذا الشهر

لست مسؤول كيف ستهدره، لكن لن تراني إلا بعد مدة طويلة، ” دبر عمرك” ابتسم باشمئزاز لتظهر صُفرة أسنانه المتأكله، وهو يأخذ منه الظرف.

كل ما كان يفكر فيه راشد الآن أن يحصل عليها، لايهم ما سيحدث لا حقاً.

: حسنًا حسنًا لننته الآن.

يخرج من جيبه كيس صغير ملفوف بإحكام.

: خذ ولا أجدك إلا بعد مرور ثلاثة أشهر…

يتخطفهُ راشد من يده، لا عليك.

ركب سيارته، يُنظر إلى الكيس الذي بين يديه، يشعر بإنتشاء اللحظه و كيف لها أن تمحو أثر ما حدث وكأنه لم يكن على حافة الهاوية من فرط قلقه.

يعيده لجيبه، يتأكد من مكانه.

لم ينتبه أنه أغلق الباب بقوة، لتتقلب سارة وتستيقظ.

تنظر لأبيها مُبتسمة كعادتها، أين نحن الآن؟ لم تلبث إلى وأن تنظر حولها، وهل حلَّ الظلام؟

لا تجيد التفريق بين الوقت سوى أنه يوجد نهار أو ظلام، وهي الآن في وسط ظلام يُخيفها.

ترى وجه والدها من الضوء الخافت في السيارة، مُبتهج بأثارٍ من قلق.

ظلت صامتة تتنتظر إجابته،

… لاجواب …

تتأمله وهو يتخذ طريق العودة مُسرعاً،

اعتدلت بجلستها وهي ترى سيارة رمادية أمامها تسير بالسرعة ذاتها حتى ابتعدت تمامًا وابتلعها الظلام…

أضف تعليق